الدين والحياة
* موسى سبيتي
ان أهل البيت هم العلماء بدين الله، وجميع مبادئهم وتعاليمهم ومثلهم هي مبادئ دين، ومستمدة من الاسلام، لا من شيء سواه.
ان للدين في نفوس بعض الناشئة صورة ممقوتة، ومنظراً مخيفاً، يسمعون بالدين فينفرون منه، ويتبرمون بوصاياه، ويصرفون أسماعهم وأبصارهم عن الإصغاء إليه، والنظر فيه، ويحسبون أن الأديان تسير في طريق معاكس لطريق الحياة.
ان المجتمع الحاضر تتصادم فيه تيارات مختلفة: من ماركسية تحارب تعاليم الأديان، وتنشر بين الناس أن تعاليم الأديان هي أسباب انحطاط البشر، ومن وجودية تعلن أن الانسان يخلق ماهيته وان الحرية ـ وحدها ـ هي المعول عليه في تقدم الانسان. ومن نزعة تحاول فصل الدين عن الدولة، إلى كثير من أمثال هذه الآراء والنزعات التي تقضي على المثل العليا الانسانية، وتخمد الجزء الوضاء من الانسان، وتبقي على الجانب المظلم.
مهما سيطرت نزوات الانسان ونزعاته، فانه لن يتخلى عن الفضائل والقيم التي تنسجم مع الانسان بما أنه انسان في أي بقعة نما وتكون وأي دين اعتنق، ولأي عرق انتسب.
أنا لا أنكر أن هناك قيماً في مفهوم بعض الأديان لا تلتئم مع الحياة، كالأخلاق السلبية نظير القناعة، والزهد والتسليم، والتوكل والعزلة، ونظائرها. والتسامح والصبر على الظلم. وهب أن بعض الأديان تذيع هذه القيم وتأمر بها. ولكن الاسلام، لا يأمر بها بصورة عامة بل يدعو إلى نقائضها فهو أحياناً يأمر بالعدل، ويأمر بالقوة ويأمر بالتسامح في معاملة الأفراد، ولا يرضى بالتسامح في حقوق الجماعة والشعب. (وجزاء الذين يسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف).
لا يمكن أن يكون فيه شيء من ا لصواب، قول القائلين ان الأديان تسير في خط معاكس لخطوط الحياة. فان الأديان صحبت الانسانية منذ نشأتها الأولى. وفي الأدوار التي مرت بها الانسانية وفي الأحوال التي تختلف عليها بين ارتفاع وهبوط، بين قوة وضعف بين تماسك وانحلال، بين هدوء واضطراب، بين أمن وخوف، بين سلم وحرب بين رضا وثورة، فكانت الأديان في هذه الأحوال تتولى التوجيه، والارشاد والتقويم والتهذيب، وترشد في معاملة الانسان إلى أوضح المناهج، وتضع حلولاً للمشاكل التي يتعرض لها المجتمع، وكانت خير معوان على تقدم الشعوب وازدهارها، وكانت خير منبع زاخر يستمد منه القادة والعلماء أنظمة عادلة يسوسون بها شعبهم، ويحكمون بها أممهم، ويهيئون لهم وسائل السعادة وأسباب الاستقرار.
الأديان جميعها هي التحفة السماوية لأهل الأرض، الذين يحيون على الأرض، ويريدون أن يعيشوا عيشة فيها العزة والكرامة، عيشة فيها الرضا والسعادة، عيشة لم يساورها قلق، ولم يطف بها طائف من البؤس والشقاء. فالأمة التي تفقد الكرامة لا يكون لها وجود محترم، ولا كيان مرموق، ولا صولة ترهب، والأمة التي يدب فيها القلق والريب تكثر فيها الانقلابات، وتندلع فيها الثورات، وتنفجر فيها البراكين، والأمة التي تعاني البؤس والشقاء وتتغذى بالجوع والفقر، فهي للموت أقرب منها للحياة وللعدم أقرب من الوجود، ولا تعطى من الخصائص إلا ما يعطاه المريض في دور النزع والاحتضار، والأديان جاءت لتنقذ الانسان الذي يريد أن يحيا حياة فيها خصائص الحياة. ويريد أن يخلد بكل ما للخلود من معنى رفيع، فمن الغريب أن يقال إن الأديان تسير معاكسة للحياة، بل تسير وتأخذ بيد الانسان في مجاهل الحياة ومتاهاتها، لتبلغه السعادة التي يظمأ إلى ريّها، والأمن الذي يريد أن يستظل به ليتقي النكبات والمصائب والمخاوف.
لقد شوّه الأديان أناس سموا أنفسهم رجال دين، فلم ينظروا إلى الأديان نظرة واقعية، ولم يعالجوا مشاكل المجتمع على ضوء الواقع، وألزموا الناس أن تعلق أبصارهم بالسماء، محاولين حل المشاكل بصورة غيبية ميتافيزيقية تارة بأن ينزل الله إلى الأرض وتارة بأن تكون إرادة الله طوع دعوات الكهنة وتضرعاتهم وتوسلاتهم المغرضة، فعند كل حادثة يطلبون معجزة تظهر، وخارقة للعادة تبعث الرهب والرعب، وكرامة تخرق نظام الطبيعة، وحيث تكثر هذه الاتجاهات الروحية، يكثر التدجيل والاحتيال والكذب والخداع، ليحتفظ الكهنة بمنزلتهم في نفوس الدهماء ولتبقى لهم كرامتهم عند الأغبياء، فيستعينون بالشعوذة؛ والسحر وما شاكل ذلك، فهذه الحالة السيئة تغرس في نفوس الأذكياء المقت لتعاليم الدين؛ والاحتقار لرجال الدين، والانصراف عن الدين، ويظنون أن الدين تضاد تعاليمه تعاليم الحياة، وان ذلك خطأ كثير، فهذا الذنب قائم بأصحابه وهم الكهنة؛ فلا ينبغي أن يتسرب أو يدنس الدين؛ والدين ناصع وضاء يبعث الشعاع الهادي في الظلام ويقود سفينة السلام في متلاطمات الأمواج.
وهو النقي من الغش؛ الطاهر من الدنس؛ السليم من النقائص فلا ينبغي أن نلصق به غشاً ودنساً ونقصاً هي من عمل قوم آخرين؛ أقصى أغراضهم نفع يجنونه، ومال يكنزونه وسلطة يبسطونها وعزة يفرضونها؛ وان تهدمت عقلية الشعب؛ وفسد ذوقه وساء اعتقاده وانهارت ثقته وغمره الريب في صلاح الانسان.
نحن لا نقول جميع رجال الدين على هذا الخلق المنحط أو الجهل المعيب فهناك، رجال مخلصون منزهون عن هذا الانحطاط، يعرفون الواجب فيقومون به ويقدسونه، ويعملون بوحي ضمائرهم وارشاد اعتقادهم، وهداية إيمانهم وفي دعوتهم البلاغ المبين.
مع ذلك هذا لا يفسح العذر للإعراض. فعلى الفاهم الخبير أن يفتش وينقب؛ ويرجع إلى الدين في منابعه الأولى ويدرس كتبه المقدسة فعند ذاك تنجلي له الحقائق، ويعرف الحق من الصواب. فان كتب الأديان تعتني غاية الاعتناء بالقيم السامية الرفيعة كحرية النفس، والمساواة، وحب التضحية وتعتني غاية الاعتناء بالقيم الاجتماعية: كالعدل والمحبة والتعاون، وتعتني غاية الاعتناء بالفضائل الشخصية كالصدق والشجاعة وقوة الارادة، ويعني الاسلام بالناحية السياسية والناحية القانونية. وينظم أخلاقية الجماعة بمبادئ رفيعة لم تقصر، عما فكر فيه الفلاسفة ونظموه من الأيام اليونانية إلى عصرنا الحاضر.
اعتنى الاسلام بالناحية الاقتصادية فجعل في أموال الأغنياء حقاً للفقراء، كما قسم التركات تقسماً عادلاً بالميراث كما قبض على أيدي الجشعين فمنع الاحتكار وقت الغلاء.
لم يقف الاسلام في تشريعه ولم يجمد أمام الحوادث المتتالية وأمام تقدم الانسانية وتقدم الحضارة، فجعل في التشريع باب الاجتهاد مفتوحاً، فعلى العلماء أن لا يتوانوا ولا يقصروا، وعلى كل طائفة من الفرق الاسلامية أن تستنير بما لاختها من فقه واستنباط، ليتعاون الجميع على حل المشاكل التي يتخبط بها المسلمون في شؤونهم الاجتماعية والسياسية.
نستطيع أن نقول: أغراض الاسلام خمسة: عقيدة صافية، نظام عادل، سياسة شورية، خلق قويم، سلوك رضي.
في حين أن الأديان جميعها قصرت عن هذه الأغراض الخمس مجتمعة بل تحتوي بعضها دون البعض الآخر لذلك كان الاسلام خاتمة الأديان لمرونته واتساعه.